لا أحد بريء من الآخر يا ولاد بديعة

أبناء الخيبة 

قطار بلا وجهة 

تبدأ الحكاية قبل حصولي على المسلسل، أنا ابنة غزة التي تعيش الابادة الجماعية وتكتشف وجوهاً جديدة لمجتمع يُجيد التستر، وتشهد موت مدينتها ووجود ذئاب بشرية بيننا، لأتوقف هناوأكمل ما جئت لأسرده، قبل أن أموت أريد أن أخبركم ألا تشاهدوا هذا المسلسل،  ألا تركبوا القطار مع المخرجة رشا هشام شربتجي، التي تعودت أن تأخذنا في رحلات سورية مبدعة عبر الكاميرا والشخصيات، وألا يغركم وجود نخبة محببة لقلوبنا من الممثلين بداية بسلافة معمار ونادين تحسين بيك ختاماً بالمبدع محمود نصر. 
لقد دفعت صديقتي -أنوار- مبلغاً مقابل حصولها على كافة حلقات مسلسل ولاد بديعة من شاب يفتتح "كشك السينما" ويبيع الحلقات كاملة بما يقارب 5 دولار وكان جزء من هدية لعيد ميلادي رغم كل ظروف الحرب، نبحث عن مخرج يواسي الروح التائهة فينا، ولكنه كان خيبة أمل لا تُضاهى، لدرجة اغماض عينيك في مشاهد قاسية وأخرى منحطة وسافلة بكل ما تحمل الكلمة من معنى.

بين الماضي والحاضر قلة أصل ودونية 

أحب حين اقرأ كتاباً أو أشاهد مسلسلاً تلفزيونياً أن أتابع كيفية تغير الشخصية، من الخطيئة نحو الندم، من اللاوعي نحو الوعي، من حياة كاملة نحو موت مؤثر، أما أن أشاهد flat character لكل الشخصيات التي تظهر، دون أي تغيير يُذكر، دون أي درس حقيقي يمسح من ذاكرتي رعب مواجهة أشخاص لن تُغيرهم كل أهوال الدنيا، ويخفف وطأة الشر الذي يتمادى دون أن يوقفه أحد! 
 بديعة طفرة سينمائية انطلقت من عندها الأحداث، تبني حكاية عليها ثم تدعها تطفو وحدها، هي السيدة التي لا نعلم عن ماضيها شيء، تجوب منطقة الدباغة وبيدها طفلة صغيرة، ولكن في الحاضر وما يتبقى منه بديعة مستغلة جنسياً من قبل عارف الدباغ، وهو رجل يدَعي الأخلاق وكل من حوله يحلفون باسمه في الماضي ويدعون له بالرحمة في الحاضر، صاحب الفضل دائماً إلا على ابنه البكر مختار، حيث يُنجب له من بديعة توأمين يقضون على رجولته في الحاضر، ويقتل مختار أمهم في الماضي، هي عملية انتقام دائرة، لا خير فيها رغم أملك كمشاهد بأن يخرج من بين ولاد بديعة خير صافٍ ولكن لا يمكن، حتى من سكر التي يضع الله في طريقها رجل من السلطة وتعترف له بكل شيء مقابل أن تعود نظيفة، ولكن هناك من يريد أن يوصل لك فكرة أن ابن الحرام سيبقى ابن حرام لو أعدته لرحم أمه! 

زمن المسلسل يدور دون أن يخدش أحد الاسطوانة، لا أحد يموت من الشخصيات الأساسية، لا أحد يتغير، عدا يحيى وهو صديق مختار الذي تلقى مصيراً لسم هو طبخه لنفسه، والنصيحة التي نخرج بها من علاقة يحيى ومختار "إياك أن تتلاعب في عقلية مضطرب نفسي، أن توهمه أكثر من عقله". 

ولاد بديعة في بحر الخطيئة 

ولاد بديعة بشر من لحم ودم، يطفون في بحر من الخطيئة والنذالة، وكلما شعرت أنهم سيسلكون الدرب الصحيح، تُذكرهم الدنيا أنهم أبناء حرام وأن عليهم أن يكملوا هكذا، مختار الابن البكر لعارف الدباغ مختل نفسي لم تعد حياته صالحة، جثة على سرير في مصحة نفسية، شاهين الابن الثاني لعارف، مهووس بوالده ويريد الخروج من جلده، ولكنه لا يستطيع حتى لو تزوج بابنة الملك!، ياسين "فاكهة المسلسل العفنة" هو شخصية متخبطة لا يعلم ما يريد تماماً، يريد المال ثم لا يريد أن تدق السلطة بابه، يريد الذهب، ثم يصرعه رعباً خبطة أقدام أبو الهول الذي يعود من موته لموتة تفتت جسده!، أما سكر "ملح جامد" الراقصة والقاتلة والتائبة ثم المذنبة بلا رمشة عين، التي ترقص على جثة أبو الهول على أنغام غنيته المفضلة "فاحت ريحة البارود" التي أرددها حتى بعد انتهاء المسلسل وأسمع صوت خطوات أبو الهول قادمة لتضرب رأسي في الأرض وتطالبني بالأموال والذهب! 

يحط ولاد بديعة أقدامهم على شاطئ السلطة ليريحوا ضميرهم قليلاً مما فعلوا مسبقاً من أعمال اجرامية لا يمكن تغافل أي سلطة عنها، وهنا دليل دامغ على أنه يمكن حماية الشر بسقف من السلطة. 

ولاد بديعة وأولاد الحلال 

هديل، السيكي، زهرة، جمعة، نظمي، الوفا الشامي، كلهم أبناء حلال، صنفتهم الدنيا إلى طيب وشرير، على الأقل يمكن أن تميزهم، لا أن تحتار بهم مثلما فعل الكاتب في شخصيات ولاد بديعة، ماذا تريد مني كمشاهد أن أفعل تجاه شخصيات تقتل، تفتري على الناس ظلماً، هل أصفق للظلم؟ لا يمكن أن أفعلها حتى توقفت أمام شخصية شاهين وقلت لنفسي: 
هو أقلهم شراً وأكثرهم طموحاً! 

حسناً هل يمكنني تقبل الحقيقة التي يفرضها المسلسل والتي تُقرَ بأن الجميع شرس، والجميع لديه وجهه نظر في الحق والباطل في النهاية؟ لقد تشوش عقلي رغم كل محاولات قذف الأفكار لتبرير ما شكل الدولة والإنسان بعد الحرب؟

غياب الحب وحضور العنف بقوة

لا يمكن أن يصنع التوازن في الحياة حين تغيب القوة المحركة للنفس البشرية -الحب-، فإذا غاب الحب، حضر العنف واجتمعنا في غابة من البشر نضارب بعضنا البعض كديوك المراهنات وهناك من ينافس دوماً على خسارتنا! 
لا قصة حب حقيقية سوى حب السيكي لابنة الحي التي كان مقدراً أن يكون السبب في وفاتها، وإذا حسبنا زهرة ونظمي فقد ترجح كفتهم لاحقاً لأن زهرة مشتتة بين الماضي والحاضر. 

أيمكن أن يكون غياب قوة الحب بين الشخصيات الرئيسية حقيقة مقصودة لتبرير كل ما يجري من عنف؟

فنحن دون محبة همج، وولاد بديعة دليل على ذلك.  

الرمزية في المسلسل: نجاح صاعد 

يُعد نجاحاً مبهراً توظيف الرمزية في مسلسل كل ما فيه يوحي بالعنف بدءاً من شنق القطط حتى صراع الديكة، في لقطة محيرة يتوقف مختار المضطرب نفسياً عند رؤيته لقطط الشوارع، لا يتحمل رؤيتها، بمعنى أوضح لا يتحمل وجود فكرة بريئة، أيضاً محطة سكة القطار القديمة هي رمزية عن حياة الأبطال التي لا تأخذك لمطرح!

لا يمكن غض النظر عن أحلام سكر ومجيء بديعة غير راضية ومحذرة إياها عن التراجع عن اقتراف مزيد من الخطيئة، حيث مجيئها الصادم والمضحك بشكل شاه تنتظر دورها في أن تذبح، المشهد قاسٍ والحياة النابضة في اطار المسلسل قاسية ومرعبة، أما عن جمعة والديك فهي قصة مثيرة ومرعبة في ذات الوقت، حين يتشكل هوسك وتتحول لعبد لديك ذو حظ في كسب مراهنات صراع الديكة التي تُشبه تماماً صراع الأخوة مع بعضهم البعض حول ميراث الوالد! 

مسلسل ولاد بديعة انتهى قبل الحلقة الأخيرة بكثير

إذا كنت قد بدأت مشاهدته، يمكنك الاكتفاء والتوقف، ما هو آتٍ وإن كنت قد تعديت الحلقة العاشرة هو حشو لا غير، حشو مشاهد في عين المشاهد لا أكثر، تفرع عن الحكاية وازدهار في الجريمة كأنها الغنيمة! 

يمكنني الاعتراف الآن: الخيبة تنبع من حماس الانتظار.

أتعلمون ما كنت أنتظره في نهاية المسلسل؟  

كنت أتوقع ظهور بديعة في النهاية، أن يكون شخص ما أنقذها لترى خيبتها في أبنائها بعد أن تطمح فيهم تغييراً ما ولكنه يذوب في محلول مفاجئات الدنيا التي لا تنتهي. 


Post a Comment

أحدث أقدم